سورة الأنعام - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)}
قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} الفتنة الاختبار أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال، ورأوا الحقائق، وارتفعت الدواعي. {إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} تبرءوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين. قال ابن عباس: يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم، ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، فإذا رأى المشركون ذلك، قالوا إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك فتعالوا نقول إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين، فقال الله تعالى: أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم، فيختم على أفواههم، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك يعرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا، فذلك قوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثا} [النساء: 42].
وقال أبو إسحاق الزجاج: تأويل هذه الآية لطيف جدا، أخبر الله عز وجل بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حين رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في هلكة تبرأ منه، فيقال: ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأت منه.
وقال الحسن: هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا، ومعنى {فِتْنَتُهُمْ} عاقبة فتنتهم أي كفرهم.
وقال قتادة: معناه معذرتهم.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: «فيلقى العبد فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى أي رب فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا، فيقول إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول له ويقول هو مثل ذلك بعينه ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع قال فيقال ها هنا إذا ثم يقال له الآن نبعث شاهدا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي سخط الله عليه».


{انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)}
قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ} كذب المشركين قولهم: إن عبادة الأصنام تقربنا إلى الله زلفى، بل ظنوا ذلك وظنهم الخطأ لا يعذرهم ولا يزيل اسم الكذب عنهم، وكذب المنافقين باعتذارهم بالباطل، وجحدهم نفاقهم. {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي فانظر كيف ضل عنهم افتراؤهم أي تلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم.
وقيل: {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغن عنهم شيئا، عن الحسن.
وقيل: المعنى عزب عنهم افتراؤهم لدهشهم، وذهول عقولهم.
والنظر في قوله: {انْظُرْ} يراد به نظر الاعتبار، ثم قيل: كَذَبُوا بمعنى يكذبون، فعبر عن المستقبل بالماضي، وجاز أن يكذبوا في الآخرة لأنه موضع دهش وحيرة وذهول عقل.
وقيل: لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة، لأنها دار جزاء على ما كان في الدنيا- وعلى ذلك أكثر أهل النظر- وإنما ذلك في الدنيا، فمعنى {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} على هذا: ما كنا مشركين عند أنفسنا، وعلى جواز أن يكذبوا في الآخرة يعارضه قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً}، ولا معارضة ولا تناقض، لا يكتمون الله حديثا في بعض المواطن إذا شهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بعملهم، ويكذبون على أنفسهم في بعض المواطن قبل شهادة الجوارح على ما تقدم. والله أعلم.
وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} قال: اعتذروا وحلفوا، وكذلك قال ابن أبي نجيح وقتادة: وروي عن مجاهد أنه قال: لما رأوا أن الذنوب تغفر إلا الشرك بالله والناس يخرجون من النار قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقيل: {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} أي علمنا أن الأحجار لا تضر ولا تنفع، وهذا وإن كان صحيحا من القول فقد صدقوا ولم يكتموا، ولكن لا يعذرون بهذا، فإن المعاند كافر غير معذور. ثم قيل في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} خمس قراءات: قرأ حمزة والكسائي {يكن} بالياء {فتنتهم} بالنصب خبر {يكن} {إِلَّا أَنْ قالُوا} اسمها أي إلا قولهم، فهذه قراءة بينة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو {تَكُنْ} بالتاء {فتنتهم} بالنصب {إِلَّا أَنْ قالُوا} أي إلا مقالتهم. وقرأ أبي وابن مسعود وما كان- بدل قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ}- فتنتهم إلا أن قالوا. وقرأ ابن عامر وعاصم من رواية حفص، والأعمش من رواية المفضل، والحسن وقتادة وغيرهم {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ} بالتاء {فِتْنَتُهُمْ} بالرفع اسم {تَكُنْ} والخبر {إِلَّا أَنْ قالُوا} فهذه أربع قراءات.
الخامسة: {ثم لم يكن} بالياء {فِتْنَتُهُمْ}، رفع ويذكر الفتنة لأنها بمعنى الفتون، ومثله {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى}
[البقرة: 275]. {وَاللَّهِ} الواو واو القسم {رَبِّنا} نعت لله عز وجل، أو بدل. ومن نصب فعلى النداء أي يا ربنا وهي قراءة حسنة، لان فيها معنى الاستكانة والتضرع، إلا أنه فصل بين القسم وجوابه بالمنادي.


{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وقرأ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)}
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} أفرد على اللفظ يعني المشركين كفار مكة. {وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم. وليس المعنى أنهم لا يسمعون ولا يفقهون، ولكن لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، ولا ينقادون إلى الحق كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم. والأكنة الأغطية جمع كنان مثل الاسنة والسنان، والاعنة والعنان. كننت الشيء في كنه إذا صنته فيه. وأكننت الشيء أخفيته. والكنانة معروفة. والكنة بفتح الكاف والنون امرأة أبيك، ويقال: امرأة الابن أو الأخ، لأنها في كنه. {أَنْ يَفْقَهُوهُ} أي يفهموه وهو في موضع نصب، المعنى كراهية أن يفهموه، أو لئلا يفهموه. {وَفِي آذانِهِمْ وقرأ} عطف عليه أي ثقلا، يقال منه: وقرت أذنه بفتح الواو توقر وقرأ أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين. وقد وقر الله أذنه يقرها وقرأ، يقال: اللهم قر أذنه. وحكى أبو زيد عن العرب: أذن موقورة على ما لم يسم فاعله، فعلى هذا وقرئت بضم الواو. وقرأ طلحة بن مصرف وقرأ بكسر الواو، أي جعل في آذانهم ما سدها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير، وهو مقدار ما يطيق أن يحمل، والوقر الحمل، يقال منه: نخلة موقر وموقرة إذا كانت ذات ثمر كثير. ورجل ذو قرة إذا كان وقورا بفتح الواو، ويقال منه: وقر الرجل بضم القاف وقارا، ووقر بفتح القاف أيضا. قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها} أخبر الله تعالى بعنادهم لأنهم لما رأوا القمر منشقا قالوا: سحر، فأخبر الله عز وجل بردهم الآيات بغير حجة.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ} مجادلتهم قولهم: تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله، عن ابن عباس. {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني قريشا، قال ابن عباس: قالوا للنضر بن الحرث: ما يقول محمد؟ قال: أرى تحريك شفتيه وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر صاحب قصص وأسفار، فسمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم وإسفنديار فكان يحدثهم. وواحد الأساطير أسطار كأبيات وأباييت، عن الزجاج. قال الأخفش: واحدها أسطورة كأحدوثة وأحاديث. أبو عبيدة: واحدها إسطارة. النحاس: واحدها أسطور مثل عثكول. ويقال: هو جمع أسطار، وأسطار جمع سطر، يقال: سطر وسطر. والسطر الشيء الممتد المؤلف كسطر الكتاب. القشيري: واحدها أسطير.
وقيل: هو جمع لا واحد له كمذاكير وعباديد وأبابيل أي ما سطره الأولون في الكتب. قال الجوهري وغيره: الأساطير الأباطيل والترهات. قلت: أنشدني بعض أشياخي:
تطاول ليلي واعترتني وساوسي *** لآت أتى بالترهات الأباطيل

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8